روى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { عفوا
عن نساء الناس تعف نساؤكم ، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم ، ومن أتاه أخوه
متنصلا فليقبل ذلك محقا كان أو مبطلا ، فإن لم يفعل لم يرد علي الحوض } . [ ص: 439 ]
( وإن )
حرف شرط جازم ( يزن ) فعل الشرط مجزوم بحذف الياء ( يفسد ) فعل مضارع مبني
للمجهول جواب الشرط مجزوم وحرك بالكسر للقافية ، أي وإن يزْنِ الرجل يُفسد
في أهله ، يعني يزنى في أهله ، لأن الجزاء من جنس العمل جزاء وفاقا . ويصح
أن يكون مبنيا للمعلوم أي يفسد أهله .
و هنا نروي قصة وااااقعية تشرح قول سيد البشر و ما ينطق عن الهوى..
فما
أبلغها قصة ذلك التاجر من مدينة الموصل في شمال العراق ، والتي وقعت
بالفعل مطلع القرن الماضي ، وذاك التاجر صاحب الخلق والدين والاستقامة
وكثير الانفاق على أبواب الخير من الفقراء والمعوزين وباني المساجد
ومشاريع الخير .
فلما
كبرت به السن وكان له ولد وبنت ، وكان كثير المال ذائع الصيت ، فأراد أن
يسلم تجارته لابنه ، حيث كان التاجر يشتري من شمال العراق الحبوب
والأقمشة وغيرها ويبيعها في الشام ويشتري من الشام الزيوت والصابون وغير
ذلك ليبيعه في العراق .
فبعد أن جلس مع ابنه وأوصاه وعرّفه بأسماء تجار دمشق الصادقين ، ثم أوصاه
بتقوى الله إذا خرج للسفر وقال : ( يا بني ، والله إني ما كشفت ذيلي في
حرام ، وما رأى أحدٌ لحمي غير أمّك ، يا بنيّ حافظ على عرض أختك
بأن تحافظ على أعراض النّاس ) . وخرج الشاب في سفره وتجارته ، وباع في
دمشق واشترى وربح المال الكثير ، وحمّله تجّار دمشق السلام الحار لأبيه
التاجر التقيّ الصالح .
وخلال
طريق العودة وقبيل غروب شمس يوم وقد حطّت القافلة رحالها للراحة ، أما
الشاب فراح يحرس تجارته ويرقب الغادي والرائح ، وإذا بفتاة تمرّ من المكان
، فراح ينظر إليها ، فزيّن له الشيطان فعل السوء ، وهاجت نفسه الأمّارة
بالسوء ، فاقترب من الفتاة وقبّلها بغير إرادتها قبلة ، ثمّ سرعان ما
انتبه الى فعلته وتيقّظ ضميره ، وتذكّر نظر الله إليه ، ثمّ تذكّر وصية
أبيه ، فاستغفر ورجع الى قافلته نادماً مستغفراً .
فينتقل
المشهد الى الموصل ، وحيث الابن ما زال في سفره الذي وقع فيه ما وقع ،
حيث الوالد في بيته يجلس في علّيته وفي زاوية من زواياها ، وإذا بساقي
الماء الذي كان ينقل إليهم الماء على دابته يطرق الباب الخارجي لفناء
البيت ، وكان السّقا رجلاً صالحاً وكبير السن ، اعتاد لسنوات طويلة أن
يدخل البيت ، فلم يُر منه إلا كلّ خير .
خرجت
الفتاة أخت الشاب لتفتح الباب ، ودخل السقا وصبّ الماء في جرار البيت
بينما الفتاة عند الباب تنتظر خروجه لتغلق الباب ، وما أن وصل السقا عند
الباب وفي لحظة خاطفة زيّن له الشيطان فعل السوء ، وهاجت نفسه الأمّارة
بالسوء فالتفت يميناً وشمالاً ، ثمّ مال الى الفتاة ، فقبّلها بغير
إرادتها قبلة ، ثم مضى ، كل هذا والوالد يجلس في زاوية من زوايا البيت
الواسع يرى ما يجري دون أن يراه السّقا ، وكانت ساعة الصمت الرهيب من الأب
، ثم الاسترجاع أن يقول ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) ، ثم الحوقله أن
يقول ( لا حول ولا قوّة إلا بالله ) ، وأدرك أنّ هذا السّقا الذي ما فعل
هذا في شبابه فكيف يفعلها اليوم ، وأدرك أنّما هو دينٌ على أهل البيت ،
وأدرك أنّ ابنه قد فعل في سفره فعلة استوجبت من أخته السداد .
ولمّا
وصل الشاب وسلّم على أبيه وأبلغه سلام تجّار دمشق ، ثمّ وضع بين يديه
أموالاً كثيرة ربحها ، إلا أنّ الصمت كان سيد الموقف ، وإنّ البسمة لم تجد
لها سبيلاً الى شفتيه ، سوى أنّه قال لابنه : هل حصل معك في سفرك شيء ،
فنفى الابن ، وكرّرها الأب ، ثمّ نفى الابن، الى أن قال الأب : ( يا بني ،
هل اعتديت على عرض أحد ؟ ) ، فأدرك الابن أن حاصلاً قد حصل في البيت ،
فما كان منه إلا أن اعترف لأبيه ، ثمّ كان منه البكاء والاستغفار والندم ،
عندها حدّثه الأب ما حصل مع أخته ، وكيف أنّه هو قبّل تلك الفتاة بالشام
قبلة ، فعاقبه الله بأن بعث السقا فقبّل أخته قبلة كانت هي دين عليه ،
وقال له جملته المشهورة : ( يا بُنيّ دقة بدقة ، ولو زدت لزاد السقا ) ،
أي أنّك قبّلت تلك الفتاة مرة فقبّل السّقا أختك مرة ، ولو زدت لزاد ، ولو
فعلت أكثر من ذلك لفعل .
نعم ، ما أصدقها عبارة هذا الرجل الصالح ، وما أجملها كلمات الإمام الشافعي رحمه الله .